الحدثالواجهةدوليدولياتشؤون عربيةعاجلمقالاتمقالات أخرىمنوعات

معضلة سوريا: جغرافيا الصراع وتحديات التحول الديمقراطي

سيف الدين قداش

مع سقوط نظام آل الأسد، تبرز سوريا كواحدة من أعقد القضايا الجيوسياسية في العصر الحديث، فهي ليست مجرد دولة مزقها الصراع الداخلي والتدخل الخارجي منذ عام 2011، بل ساحة تتقاطع فيها مصالح القوى الإقليمية والكبرى، فلقد فتح سقوط النظام الباب أمام سيناريوهات متباينة قد تعيد تشكيل خريطة الشرق الأوسط، لكن وسط كل ذلك، يبقى الشعب السوري هو الضحية الأكبر في معادلة تفرضها حسابات المصالح الدولية، وأدوات الصراع، فنظام آل الأسد، الذي كان هشا من الناحية الهيكلية والإدارية، تحول إلى عنوان للإجرام والهمجية ونموذجا للفشل السياسي والاجتماعي، إلا أن تدمير البنية التحتية، وتشريد الملايين، وتفكيك مؤسسات الدولة، جعل الثمن الذي تدفعه سوريا وشعبها باهظا إلى حد لا يمكن لأي طرف تبريره.

التوظيف الاستراتيجي للجماعات الإسلامية أداة للفوضى أم للسيطرة؟

لعبت القوى الكبرى دورا محورياً في استغلال الجماعات الإسلامية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، فتجربة الولايات المتحدة مع تنظيم القاعدة في أفغانستان وحركة طالبان تمثل مثالا واضحا لاستراتيجية “التوظيف ثم التصفية”، وفي سوريا، قد يعاد استخدام هذه الاستراتيجية عبر الجماعات الإسلامية المسلحة، وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام”، التي تصنف دوليا كمنظمة إرهابية، هذه الجماعات، التي بدأت كطرف مناهض للنظام، تحولت إلى ورقة ضغط قد تستخدم لإعادة صياغة التوازنات السياسية والعسكرية في سوريا، فمن جهة، تستغل لتبرير التدخلات الدولية مثلما فعل الكيان الصهيوني بقصف مقدرات الجيش العربي السوري ولخلق استقطاب مجتمعي بين التيارات الإسلامية والمعارضة المدنية. ومن جهة أخرى، قد تكون مستهدفة مستقبلا في إطار خطط دولية لتبرير القضاء عليها وضرب معاقلها بعد أن تستنفد دورها الوظيفي.

لكن السؤال الأهم كيف وصلت هذه الجماعات إلى السلطة وهذه القوة دون أن تنجح في أن تصبح جزءا من مشروع وطني جامع؟ الإجابة تكمن في استراتيجية “التفكيك الموجه”، حيث يتم السماح لهذه الجماعات بالنمو في بيئات مضطربة لتصبح أداة للتقسيم وضمان استمرار الفوضى، مما قد يمنع أي تحول سياسي يعيد للسوريين سيادتهم على بلدهم.

تدمير القدرات العسكرية السورية لعبة إسرائيلية أم مخطط دولي؟

منذ اندلاع الصراع، تعرض الجيش السوري لسلسلة من الضربات الممنهجة، ليس فقط من القوى الداخلية بل من أطراف خارجية، أبرزها الكيان الصهيوني، فالغارات الإسرائيلية التي تقصف بطائرات وذخيرة أمريكية وغطاء رداري من قوات السنتكوم لم تتوقف على مدار الصراع، لكنها وصلت ذروتها بعد سقوط نظام الأسد، حيث تشير التقديرات إلى أن أكثر من 80% من القدرات العسكرية السورية تم تدميرها خلال فترة قصيرة، فاستهداف الدفاعات الجوية والرادارات، التي لم تكن طرفا مباشرا في الصراع الداخلي وليست أسلحة هجومية، أثار تساؤلات حول الأهداف الحقيقية لهذه الهجمات، ومن خطط لها ومن يقف وراءها ولماذا لم تحمى هذه المنشآت؟ وكيف تركها المسؤولون عنها سريعا رغم بعدهم عن أزمة الصراع الأهلي؟.

الجواب يكمن في مخططات استراتيجية أوسع تهدف إلى تفكيك القدرات العسكرية السورية لضمان تفوق الكيان على المدى الطويل، وتمهيد الطريق أمام مشاريع توسعية محتملة، فتصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأن “إسرائيل صغيرة جدا وتحتاج إلى مساحة أكبر”، تحمل أبعادا جيوسياسية تعكس مخططات لتفكيك الدول المحيطة وضمان حيادها في المستقبل مع إمكانية التوسع عبى حساب أراضيها لصالح مشروع ” إسرائيل الكبرى”.

الفوضى المنظمة أداة لإعادة تشكيل النظام الدولي

سوريا مثلها مثل العراق وليبيا، تحولت إلى مختبر للفوضى المنظمة، هذه الفوضى ليست عشوائية، بل أداة بيد القوى الكبرى لإعادة صياغة الوضع الإقليمي والدولي، فتفجير الساحة السورية لم يكن خيارا عشوائيا أو دفاعا عن الديموقراطية، بل كان ضرورة جيوسياسية لإضعاف التحالقات التقليدية للمحور الروسي-الإيراني ومنع ارتكازهما عليها كمركز قوة وظيفي في المنطقة رغم أن نظام دمشق كان متهالكا، مما إستدعى تدخلهما لمحاولة إسعافه!.

كما أن التقسيم والفوضى يخدمان مصالح القوى الكبرى، التي تسعى لتكريس حالة التشرذم في سوريا عبر دعم فصائل متصارعة مثل قسد وتسهيل التدخلات الإقليمية، هذه الاستراتيجية هدفت إلى ضمان تفوق تل أبيب ومنع أي دولة شرق أوسطية من العودة كقوة مركزية قادرة على تحدي النظام العالمي القائم، أو تهديد الترتيبات الإسرائيلية الجارية.

التحديات الداخلية والخارجية للتحول الديمقراطي

الحديث عن الديمقراطية في سوريا بعد سقوط النظام يبدو أقرب إلى نظرية معقدة من واقع عملي، فالساحة السياسية والاجتماعية مليئة بالتحديات ومنها إختلاف مشارب الجماعات الاسلامية المسلحة وتعدد ولاءاتها وبالتالي طرقها وخياراتها مع تصاعد النزعات الطائفية والإثنية فالطوائف المختلفة، بما فيهم العلويون والأكراد، تعاني من انقسامات عميقة ومخاوف وجودية، بتورط الطائفة العلوية مع النظام السابق، وتورط الثانية مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة.

كما أن الاستقطاب الأيديولوجي مطروح بقوة خاصة وأن التيارات الإسلامية تسعى لفرض نفسها كنموذج للدولة المقبلة شكلا ومضمونا، ما يثير قلق التوجهات الأخرى، وهو أمر خطير من جانب خاصة مع تجربة الإخوان المسلمين في مصر الذين كان انخراطهم في السلطة المغارة التي ابتلعتهم وأفنت وجودهم السياسي والفكري وتحولوا بموجبه إلى حركة إرهابية منبوذة.

كما أن بقايا النظام السابق وهم عناصر تائهة الآن، لكنها يمكن أن تنشيء أو تملك شبكات نفوذ ناقمة ومتورطة، قد تعرقل أي تحول ديمقراطي عبر إثارة الفوضى للحفاظ على مصالحها، إذا تم استبعادها من المشهد العام خاصة أن الانتخابات مستبعدة حاليا لأنها قد تصبح حالة إرتماء في يد الأفكار المضادة عن الجماعة الحاكمة الآن، بدورها دول الجوار لديها حسابات وتوازنات معقدة، وعلى رأسها تركيا وإيران والعراق وتل أبيب، حيث يمكن أن تلعب أدوارا متناقضة في الأزمة السورية، فتركيا تسعى لضمان عدم قيام كيان كردي مستقل على حدودها، وإيران تهدف إلى الحفاظ على نفوذها الإقليمي من خلال السيطرة على التحولات السياسية الجديدة، خاصة مع حدود سوريا مع العراق ولبنان الذين لديهما طوائف شيعية منظمة عسكريا، فيما تبقى تل أبيب المستفيد الأكبر من حالة الأزمة في سوريا، حيث ضمنت تحييد أي تهديد عسكري قادم من الشمال، وهي تتربص كالتمساح الجائع بأي تحولات أو اضطرابات أمنية لتوسع تمددها لدمشق بدواعي إقامة منطقة عازلة وحماية أمنها القومي.

في كل هذا، السؤال الذي يطرح نفسه هل يمكن لدول الجوار أن تلعب دورا إيجابيا في إعادة بناء سوريا؟ أم أن تضارب مصالحها سيبقي البلاد رهينة لحالة من عدم الاستقرار الدائم؟

سوريا بين الجغرافيا والتاريخ دروس للحاضر والمستقبل

يتجلى أن الأزمة السورية ليست مجرد صراع داخلي أو تنافس على السلطة، بل تعكس تحولات عميقة في النظام الدولي، فالقوى الكبرى، التي تعيد تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها، تستغل الموقع الجغرافي والتاريخي لسوريا كأداة لترسيخ هيمنتها، لكن في النهاية، لا يمكن لأي حل أن ينجح دون احترام إرادة الشعب السوري وضمان سيادة الدولة على كامل أراضيها، فاستعادة السيادة ليست مجرد مطلب وطني، بل ضرورة قصوى لضمان مستقبل سوريا كدولة مستقلة قادرة على النهوض مجددا وسط عالم مضطرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى